ليسَ في بشعله سهولٌ واسعةٌ للزراعاتِ الكبرى، ولا يوجدُ فيها ينابيعُ غزيرةٌ للريّ؛ بل أكثرُ أراضيها جلولٌ نحتَها أجدادُنا بينَ الصخورِ وعمّروا حيطانَها بعرقِ الجبينِ وبالجهدِ المتواصل. وكانَ البشعلانيّون يعتاشون في معظمِهم من غلالِ أرضِهم. وقد اعتمدوا منذُ القدمِ على ثلاثةِ محاصيلَ أساسيّةٍ هي: العنبُ والقمحُ والزيتون، إلى أن برزَ في النصفِ الثاني من القرنِ الماضي موسمٌ جديدٌ غزا بأشجارِه أراضيَ بشعله هو التفّاح.

العنب: كانت جلولُ بشعله المحيطةُ بالبلدةِ من جهاتِ الشرقِ والشمالِ والجنوبِ عامرةً بأشجارِ الكرمة، تُرفعُ في الربيعِ على مساميكَ لحمايةِ عناقيدِها من ملامسةِ التراب. وكانت بشعله ابتداءً من أيلولَ في كلّ عامٍ ترسلُ مئاتِ الأطنانِ من عنبِها الفاخرِ إلى أسواقِ طرابلسَ على ظهورِ البغالِ والدواب. كما كانَ بعضُهم يعصرون ما تبقّى أو كسدَ فيحوّلونه إلى دبسٍ و خلٍّ ونبيذٍ وعرقٍ مُثلّثٍ يتفاخرونَ به.

القمح: كانَ القمحُ يُبذرُ في سهولِ "الميدان" و"الفراديس" وفي سائرِ البقاعِ المنبسطةِ الأخرى، ثمّ تُحصدُ السنابلُ صيفاً وتُحملُ إلى البيادرِ على ظهورِ الماشيةِ لتُدرسَ ثمّ تُجمعَ حبّاتُ القمحِ للمؤونةِ والتبنُ للعلف. أمّا اليومَ فقد انقرضت زراعةُ القمحِ وأصبحت أراضيه بوراً أو حدائقَ تفّاحٍ، كما هجرَ الناسُ البيادرَ وأصبحت أطلالاً.

التفّاح: بدأت أشجارُ التفّاحِ تغزو أراضيَ بشعله ابتداءً من عشريناتِ القرنِ الماضي، حيثُ راحَ المزارعون يستبدلون القمحَ بالتفّاح، فكثرت أشجارُه وعظمَ إنتاجُه، ثمّ عادَ ليتراجعَ شيئاً فشيئاً نظراً لصعوبةِ الإعتناءِ بأشجارِه وصعوبةِ تصريفِ إنتاجِه: فالعنبُ إن لم يبعْ صاحبُه عناقيدَه مباشرةً يُمكنُه أن يعصرَه دبساً وخلّاً وخمراً وعرقاً، والزيتونُ إن لم يُصرّفْ طازجاً يُكبسُ أو يُعصرُ زيتاً ويُحفظُ في الخوابي؛ بينما التفّاحُ "المسكين" إن لم يُقطفْ في فترةٍ مُحدّدةٍ ويُرسلْ ليُباعَ في الأسواقِ أو يُخزّنَ في البرّاداتِ ليُصرّفَ فيما بعدُ يفقدُ نضارتَه ويذبلُ ويتساقطُ عن أغصانِه فيهترئُ ويخسرُ المزارعُ موسمَه الذي انتظرَه طيلةَ العام.

الزيتون: هو الثمرةُ المباركةُ وشجرتُه مقدّسةٌ منذُ صلّى المسيحُ في بستانِه ومنذُ أخذت منه الكنيسةُ الميرونَ سرّاً مقدّساً. والزيتونُ في بشعله قديمٌ قديمٌ دفعَ البعضَ للمبالغةِ كثيراً في قدمِه. وهو مُميّزٌ في بشعله لأنّه مغروسٌ فيها على ارتفاعٍ يُناهزُ الألفَ متر، وهي ظاهرةٌ غيرُ مُتوفّرةٍ في مكانٍ آخر. كما أنّ موسمَ الزيتونِ يُجمعُ في بشعله بين الخريفِ والشتاءِ - وتحتَ الثلجِ أحياناً - فيُؤكلُ "المجرجر" اللذيذُ ويُستخرجُ الزيتُ الفاخر. وشجرةُ الزيتونِ في بشعله مُحافظةٌ على بقائها وعلى جودةِ ثمارِها، ولم يُصبْها ما أصابَ الكرمةَ والتفّاحَ إلّا بعضُ الإهمالِ جرّاءَ كسلِ المزارعين الذين كادوا ينقرضون في قرانا. والمُميّزُ في زيتونِ بشعله تلك الشجراتُ الإحدى عشرةَ التي تنتصبُ في مدخلِ البلدةِ الجنوبي، وتسترعي انتباهَ ودهشةَ المارِّ على الطريقِ الرئيسيّةِ بجذوعِها الضخمةِ وبأغصانِها الباسقةِ واصطفافِها بشكلٍ مُستقيمٍ يؤكّدُ أنّ مزارعاً بشعلانيّاً "نصبَها"قديماً جدّاً كشاهدٍ على قدمِ بشعله وعراقتِها. وقد حفرَ الزمنُ خارجَ وداخلَ جذوعِها فأضحت بعضُ هٰذه الجذوعُ مُجوّفةً بشكلٍ دائريٍّ تصلُ استدارةُ إحداها إلى حوالي خمسين خطوةً (٢٨متراً)، وقد حوّلَها بعضُ السكّانِ والغجرُ الطارئين في القرنِ الماضي إلى زرائبَ للماشيةِ أو للدواجن.

وقد أولت لجنةُ وقف مار إسطفان - المسؤولةُ المباشرةُ عن هٰذه الأشجار - ومجلسُ بلديّةِ بشعله وجمعيّةُ التنمية مُجتمعين عنايةً فائقةً بهٰذا الإرثِ السياحيِّ العظيم، وتجري الآنَ دراساتٌ أكاديميّةٌ موثوقةٌ لتحديدِ عمرِ هٰذه الزيتوناتِ المُعمّرةِ علميّاً بحيثُ تتوضّحُ جيّداً وللجميعِ تسميتُها على كلِّ شفةٍ "زيتون نوح".